في عصر قل فيه (السعي) إلى الخير، وكثر فيه السعاة إلى الشر، يجدر بنا أن نقف عند لفظ (السعي) في القرآن؛ ليستبين لنا مدلوله، عسى أن يكون في ذلك حفز لبعث الهمم من رقادها، وشحذ لها على السير في مناكب الأرض إحقاقاً للحق، وإزهاقاً للباطل.
تفيد معاجم اللغة أن لفظ (السعي) يدل على المشي السريع، وهو دون العدو، ويستعمل للجد في الأمر، خيراً كان أو شراً، قال الشاعر:
ولو أنما أسعى لأدنى معيشة كفاني ولم أطلب قليلاً من المال
ويقال: سعى به إلى فلان: إذا شكاه ونما به. وأكثر ما يستعمل (السعي) في الأفعال المحمودة. و(السعي) في كلام العرب: العمل، يقال منه: فلان يسعى على أهله، يعني: يعمل فيما يعود عليهم نفعه. ومنه قول الأعشى :
وسعى لكندة سعي غير مواكل قيس فضر عدوها وبنى لها
وخُص المشي فيما بين الصفا والمروة بالسعي، وخُصت السعاية بالنميمة، وبأخذ الصدقة، والمساعاة بالفجور، والمسعاة بطلب المكرمة.
ولفظ (السعي) ورد في القرآن في ثلاثين موضعاً، ورد في عشرين موضعاً بصيغة الفعل، من ذلك قوله تعالى: { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها } (الإسراء:19)، وورد في عشرة مواضع بصيغة الاسم، من ذلك قوله تعالى: { فلما بلغ معه السعي } (الصافات:102).
ولفظ (السعي) ورد في القرآن الكريم على ثلاثة معان:
الأول: يُطلق على المشي، من ذلك قوله تعالى: { ثم ادعهن يأتينك سعيا } (البقرة:260)، أي: يأتينك مشياً على أرجلهن. ونحو ذلك قوله سبحانه: { فلما بلغ معه السعي } (الصافات:102). أي: المشي معه، روي هذا عن قتادة وغيره.
الثاني: يُطلق على الإسراع والحرص وبذل العزم لتحصيل شيء، ومنه قوله تعالى: { وأما من جاءك يسعى } (عبس:
، قال ابن كثير : أي: يقصدك ويؤمك ليهتدي بما تقول له. وقال الشوكاني : أي : وصل إليك حال كونه مسرعاً في المجيء إليك، طالباً منك أن ترشده إلى الخير، وتعظه بمواعظ الله. ونحو ذلك قوله سبحانه: { وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى } (القصص:20)، قال قتادة : كان يعبد الله في غار، فلما سمع بخبر الرسل جاء يسعى.
الثالث: يُطلق السعي على العمل والكسب، من ذلك قوله تعالى: { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها } (الإسراء:19)، قال القرطبي : أي: عمل لها عملها من الطاعات. ونحو ذلك قوله تعالى: { ثم أدبر يسعى } (النازعات:22)، قال الطبري : يعمل في معصية الله، وفيما يُسخطه عليه. وعلى هذا المعنى قوله سبحانه: { فاسعوا إلى ذكر الله } (الجمعة:9)، قال الطبري : وأصل السعي في هذا الموضع العمل. وعن شُرحبيل بن مسلم الخولاني، قال: فاسعوا في العمل، وليس السعي في المشي. وقال قتادة : يعني: أن تسعى بقلبك وعملك، وهو المشي إليها. وليس المراد بالسعي ها هنا المشي السريع، وإنما هو الاهتمام بها، فإن السعي الحسي إلى الصلاة منهي عنه بقوله
سلم: ( إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، وأتوها تمشون عليكم السكينة ) متفق عليه.
وعلى هذا المعنى أيضاً قوله سبحانه: { إن سعيكم لشتى } (الليل:4)، قال الطبري : إن عملكم لمختلف أيها الناس؛ لأن منكم الكافر بربه، والعاصي له في أمره ونهيه، والمؤمن به، والمطيع له في أمره ونهيه.
تلكم الدلالات الثلاث التي جاء عليها لفظ (السعي) في القرآن. فإذا تبين هذا، فلا تستغرب بعدُ أن تجد بعض المفسرين قد فسر لفظ (السعي) في آية بدلالة ما، وفسره آخر بدلالة أخرى، ومرد ذلك ما يظهر للمفسر من ترجيح معنى على غيره، كما فسر بعضهم - كالقرطبي - (السعي) في قوله تعالى: { فاسعوا إلى ذكر الله } بمعنى: العمل، وفسره آخرون - كابن كثير - بمعنى: النية والقصد، وفسره فريق ثالث بمعنى: المشي، واللفظ يحتمل كلاً من هذه المعاني الثلاثة. وكما فسر بعض المفسرين لفظ (السعي) في قوله تعالى: { وإذا تولى سعى في الأرض } (البقرة:205) بمعنى القصد، أي: سعى بحيلته وإرادته الدوائر على الإسلام وأهله، وفسره آخرون بمعنى العمل، والمعنى: سعى بقدميه، فقطع الطريق وأفسدها، واللفظ محتمل لهذا وذاك؛ لأن كلا السعيين فساد، بيد أن أحدهما معنوي والآخر مادي، فتأمل.